مصيبة عقوق الوالدين parents, father, mother

رسالة قرأتها في بريد الأهرام منذ ستة عشر عاماً
لا يزال وقعها يتردد في وجداني
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

في الرابط التالي :ـــــــــــ

مصيبة عقوق الوالدين


بريـد الأهــرام

42144‏السنة 126-العدد2002ابريل26‏13 من صفر 1423هــالجمعة

جفاف النبع‏!‏




لا أعرف كيف أبدأ رسالتي‏.‏ فكل ما أعرفه هو أنني أريد أن أتكلم وأبوح بكل شيء عسي أن أهدأ وأستريح‏..‏ فأنا شاب في بداية العشرينيات من عمري‏,‏ تنبهت للحياة فلم أجد أبي حولي‏,‏ وعرفت من أمي أنه قد رحل عن الحياة بعد ولادتي بسنة واحدة يرحمه الله‏..‏ ووجدتني بين أربع شقيقات وأم تحبني بشدة وتفرق في المعاملة بيني وبين شقيقاتي البنات‏,‏ وتميزني عليهن‏,‏ وتغدق علي فيضا من حبها وحنانها‏..‏ فكل طلباتي مجابة بمجرد الإعلان عنها‏,‏ ولي دون شقيقاتي الملابس الجديدة دائما والهدايا الكثيرة‏,‏ وأعياد الميلاد التي تستعد لها أمي قبلها بفترة طويلة‏..‏ فإذا نهضت من مجلسي لأفعل شيئا أو آتي بشيء طلبت مني أمي أن أستريح‏,‏ وكلفت احدي شقيقاتي بخدمتي‏..‏ ولاحظ المحيطون بنا هذه التفرقة في المعاملة وقالوا لأمي إنها سوف تثمر علاقات غير طيبة بيني وبين شقيقاتي‏..‏ وأنها قد تدفعهن لكراهيتي فكانت أمي تقول لهم دائما إنها أنتظرت‏15‏ عاما بعد الزواج حتي أعطاها الله الولد بعد‏4‏ بنات‏,‏ فهل يستكثرون عليه هذا الحب؟
ولعلك تتساءل كيف كنت أستقبل أنا هذا الحب وهذا التدليل والتمييز‏,‏ وتتصور أنني كنت أبادلها تدليلا بتدليل وإعزازا بإعزاز كما هو المفروض لكن الحقيقة المرة هي أنني كنت أستشعر الاختناق بهذا الحب وأضيق به‏..‏ ولا أجلس مع أمي أبدا ولا أتحاور معها ولا يدور بيننا إلا الكلام الضروري بالرغم من تلهفها الدائم علي أن تتحدث إلي وأتحدث إليها‏..‏ وبالرغم أيضا من رجائها المستمر لي بأن أجلس معها بعض الوقت‏..‏ فأرفض ذلك وأقابلها دائما بوجه متجهم حين تبتسم هي في وجهي‏,‏ وأقابل كل شيء تطلبه مني بالرفض حتي ولو تعلق الأمر بمستقبلي‏,‏ فلقد كانت تطالبني بأن أبذل كل جهدي في الثانوية العامة لأنجح بتفوق وألتحق بكلية مرموقة لتتيه بي فخرا‏..‏ فكنت أعاندها ولا أوجه لمذاكرتي إلا أقل القليل من الجهد‏..‏ وأنجح بصعوبة‏..‏ ولم ألتحق سوي بكلية نظرية‏..‏ في حين تفوقت كل شقيقاتي والتحقن بكليات القمة‏,‏ وبعد انتهاء دراساتهن وعملهن جميعا تزوجن وانتقلن إلي بيوت أزواجهن وخلا البيت علي مع أمي‏..‏ فكانت تطول ساعات وحدتها فيه‏,‏ وأنا لاه عنها ومنصرف إلي أصدقائي ونزهاتي وشواغلي التافهة‏..‏ وقبل الفجر كانت تنهض من نومها لتصلي وتحاول أيقاظي لكي أصلي معها فأنهرها وأرد عليها ردا جافا فتتركني لنفسي وهي تتحسر‏..‏ وفي الصباح ترجوني أن أتناول معها طعام الإفطار لكيلا تأكل وحدها فأرفض بإصرار وأرتدي ملابسي وأخرج إلي كليتي فتلاحقني حتي باب الشقة وهي تلح علي أن أرجع للغداء معها وتؤكد لي أنها لن تتناول الطعام حتي أعود‏..‏ فأتعمد ألا أرجع إليها إلا بعد المغرب فإذا وضعت الطعام علي المائدة‏,‏ ودعتني للأكل معها صدمتها بأنني قد تناولت طعامي في الخارج فتجلس مطأطأة الرأس حزينة وتأكل وعيناها تدمعان‏,‏ وحين تطلب مني أن أذهب معها إلي الطبيب أتعلل بأنني مرتبط بمواعيد وهمية لكيلا أصحبها إليه‏..‏ وتأتي احدي شقيقاتي لمصاحبتها في زيارة الطبيب‏.‏

أما حين تأخرت عن العودة إلي البيت ذات مرة إلي ما بعد منتصف الليل فقد رجعت ووجدتها جالسة خلف الباب في حالة يرثي لها من القلق والخوف علي وعاتبتني علي تأخري وانفجرت فيها وقلت لها إنني لم أعد صغيرا ومن حقي أن أذهب إلي حيث أشاء وأرجع متي أشاء‏,‏ فانفجرت في البكاء وراحت تردد حسبي الله ونعم الوكيل عدة مرات‏.‏
وفي عيد الأم كانت شقيقاتي يجئن إليها محملات بالهدايا ويمطرنها بالقبلات‏..‏ أما أنا فلا أقول لها عبارة تهنئة واحدة لأني كنت أعتبر ذلك من شئون الأطفال وليس الكبار مثلي‏,‏ ولا أحضر لها أي هدية‏,‏ وأعجب في نفسي حين أسمع من شقيقاتي أنها قد زعمت لهن أنني قد أحضرت لها هدية ذهبية قبل عيد الأم بيوم‏,‏ وأقمت لها احتفالا خاصا بها قبل حضور شقيقاتي‏!‏

ثم رجعت من كليتي ذات يوم فوجدت الشقة خالية‏,‏ ووجدت علي مائدة الطعام ورقة من أختي تقول فيها ان أمي قد مرضت فجأة بسبب الإرهاق ونقلت إلي المستشفي‏..‏ وهرولت إلي هناك فوجدت شقيقاتي كلهن وسألت عن حالة أمي فعرفت أنها قد أصيبت بجلطة في القلب وطلبت من الطبيب أن أراها فرفض وألححت عليه طويلا حتي وافق وأذن لي بإلقاء نظرة عليها‏,‏ دخلت فوجدتها في غيبوبة تامة ولا تدري بما حولها‏,‏ ورجعت إلي البيت حزينا وخلعت ملابسي وانفجرت في البكاء‏,‏ وفي الصباح توجهت إلي المستشفي فوجدتها قد رحلت عن الحياة‏,‏ قبل لحظات نعم يا سيدي ماتت أمي قبل أن أقول لها إنني أحبها كما تحبني‏,‏ وإنها كانت كل دنياي وحياتي كما كنت أنا كل حياتها‏..‏ وأنني لا أساوي الآن شيئا بدونها ماتت قبل أن أبتسم في وجهها كما كانت تبتسم في وجهي‏..‏ وأحنو عليها كما كانت تحنو علي‏..‏ وأجالسها وأتسامر معها كما كانت تود مني دائما أن أفعل وكنت أخيب رجاءها بغفلتي وجهلي‏..‏ إن الحزن ينهشني‏,‏ وتأنيب الضمير يقتلني‏..‏ وعبارة حسبي الله ونعم الوكيل التي رددتها حين انفجرت فيها ترن في أذني وأسأل نفسي في كل لحظة ماذا كان يضيرني لو كنت قد لبيت لها طلباتها البسيطة مني وأسعدت قلبها‏.‏ ماذا كان يضيرني في أن أجالسها علي مائدة الافطار كل يوم ومائدة الغداء من حين لآخر‏..‏ وأحدثها عن نفسي كما كانت تشتهي دائما أن أفعل دائما ولماذا كنت أعبس في وجهها علي الدوام‏..‏ وأتعمد الصمت الجاف معها حتي تكاد تشحذ الكلمات مني‏,‏ ومن الآن الذي يريد أن يسمعني أو يجالسني بعدها؟ إنني لا أكتب هذه الرسالة طلبا للمشورة لأن الأوان قد فات لإصلاح الأخطاء بكل أسف وإنما أكتبها لأطلب من كل ابن أن يرحم أبويه ويبتسم في وجههما ويتكلم ويأكل معهما ويستمع إلي حديثهما ونصائحهما‏,‏ وألا يدخل غرفته ويغلقها علي نفسه‏,‏ وأمه تتلهف علي الكلام معه كما كنت أفعل‏,‏ ولكي أطلب منه أن يقبل يد أمه ويد أبيه بلا خجل فأنا الآن أبكي دما لاني لم أفعل كل ذلك ولو رجعت أمي إلي الحياة الآن لقبلت قدميها‏,‏ وليس يدها فقط لكن هيهات أن تعود والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏



يقول الله تبارك وتعالى :ـ
{ ۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ 
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا 
فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)  
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ 
وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}

تعليقات